رشا عمران: جسدي مادّة للشعر | حوار

الشاعرة رشا عمران

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

رشا عمران لا تدخل في فضاءات جاهزة؛ لا تكتب المكان والبيت والمدينة والوطن ذا الحدود الناجزة الّتي يعرفها الجميع، ستجد لها في هذه الفضاءات مساحة شعريّة ضيّقة ومعزولة، تراقب منها حياتها وحياتنا، لتتفجّر فيها عوالم شاسعة من المعاني. سيحدث الشعر دون جهد زائد، وكأنّه فعل يولد مع الاستيقاظ وإدراك الحياة الفطريّ، في زاوية غرفتها أو فوق سريرها، سيحدث ليقيم تصالحًا مع الوحدة والإرباك والاغتراب والماضي الموحش والمستقبل المجهول، لكنّه لا يبرّئ نفسه من هذه الأشياء، ولا يتجمّل أمامها.

وُلدت في طرطوس وأُجبرت على الرحيل من سوريا لتقيم في القاهرة. الأسئلة الّتي تثيرها مخاوف البشر حيال استقرارهم ومصائرهم لا تعنيها، فهي امرأة «لحظويّة» كما تقول، ولعلّ هذه اللحظة، الّتي يقع فيها الوجود والجسد والمعنى، تنعكس في قصيدة عمران مرئيّةً ومكتملة ومتعفّفة. صدر لها ستّ مجموعات شعريّة سنتحدّث في هذه المقابلة عبر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة عن الأخيرتين منها، عن الكتابة المكشوفة، وعن كتابة الجسد، والفيسبوك، والنسيان.

 

فُسْحَة: تقولين في إحدى قصائدك: بيتي من زجاج. ربّما أستطيع أن أقول إنّ شعرك من زجاج، فهو شفّاف ولا يُتأتِئ في مكاشفته. من أين يأتي ذلك؟ وكيف كسبته أو أكسبته لتجربتك الشعريّة؟ 

رشا: ربّما هذا ما قصدته في النصّ عندما قلت بيتي: شعري، من حيث إنّ الشعر في لحظة زمنيّة ما يتحوّل إلى البيت/ الوطن. دائمًا اعتقدت أنّ شعري يشبهني، أنا هشّة، رغم كلّ ما أبدو عليه من صلابة، لكنّني هشّة. ربّما لأنّني واضحة جدًّا. هذا ما سوف ينعكس على ما أكتب. بالنسبة إليّ، الشعر هو الذات الّتي تكتب. لم أفضّل يومًا الشعر الّذي يُكْتَب من خارج الذات. أقصد أن يترك الشاعر مسافة بينه ونصّه الشعريّ، ألّا يفتّش في لاوعيه عن أكثر المناطق ظلمة ليخرج منها نصّه، أن يستحضر وعيه فقط أثناء الكتابة، صورته الّتي يتمنّاها أمام الآخرين، لا حقيقته المدفونة في اللاوعي. في البيت حين تكونين وحيدة تتخلّصين من كلّ أقنعتك الّتي تضعينها في حضور الآخرين. في الشعر أنا أفعل ذات الشيء، أظهر على حقيقتي: هشّة وخائفة ووحيدة، ولا أبالي بالألم الّذي يصيبني وأنا أجرح ظلام البؤر السوداء في داخلي، كي أكتشف حقيقتي قبل أن أكشفها للآخرين.

 

فُسْحَة: لكن مقابل هذا الكشف، وفي أكثر صوره حميميّة، كما في مجموعتك «الّتي سكنت البيت قبلي»، تحضر القسوة والموت والجروح. كيف يصيران عجينة واحدة؟ أهي الحياة بهذه القسوة أم أنّ للضرورات الشعريّة حقّها؟ 

رشا: ثمّة شيء خاصّ جدًّا في «الّتي سكنت البيت قبلي»، يدهشني كلّما عدت إليه؛ ثمّة نصوص كثيرة تتحدّث عن جروح في الجسد قبل الروح، عن فراغ في الناحية اليسرى من الجسد، عن ندوب وشقوق تحت الثدي الأيسر. أنهيت كتابة هذه المجموعة في أوائل 2016، كنت أظنّ أنّني طبيعيّة صحّيًّا، إلى أن اكتشفت في الشهر العاشر من العام نفسه أنّ لديّ مشكلة في القلب، وأحتاج إلى إجراء عمليّة قلب مفتوح وتبديل شرايين. وهو ما حدث فعلًا. خرجت من العمليّة بندوب في الصدر وفي الساق وتحت الثدي الأيسر. ليوم كامل، أثناء العمليّة، كان قلبي خارج جسدي. كانت الجهة اليسرى من جسدي فارغة، كأنّني تنبّأت بما سيحدث لي. كنت غائبة عن الحياة مدّة أربع وعشرين ساعة، تحت تأثير بنج عميق، كما لو أنّ ذلك كان بروفا للموت. كيف يصبح الجسد جثّة يمكن أن تُشَرَّح دون أن يدرك صاحبها ذلك؟ لقد كتبت عن هذا قبل أن يحصل لي، قبل أن أعرف عنه شيئًا أصلًا. لم أتخيّل يومًا أنّهم في عمليّات القلب ينشرون عظام الصدر، ويستخرجون الرئة والقلب خارج الجسد. هذا ما حصل معي. أحيانًا لا أصدّق ما كتبته، وأحيانًا يجعلني ما حدث أصدّق خرافة «جنّي الشعر» أو «الوحي»، بيد أنّ ذلك في الحقيقة لم يكن إلّا نتيجة محاولاتي الدائمة لتعرية لاوعيي؛ أرسل إليّ إشارات عن خيانة جسدي فالتقطتها أنا في الشعر، لكنّ الخيانة كانت حقيقيّة. لا علاقة لقسوة الحياة ولا للضرورة الشعريّة بالأمر، هو فقط قدرتك على الكشف وإدراكك لكينونتك الذاتيّة والعامّة، وامتلاكك للأداة الّتي تعبّرين بها عن هذا الكشف؛ أقصد اللغة ومعها المعرفة وقبلها الموهبة.

 

فُسْحَة: وفي هذا الكشف جرأة وحرّيّة ملموسة في كتابتك عن الجسد والمرأة. هل تنتزع الشاعرة العربيّة - في رأيك - هذه الحرّيّة انتزاعًا؟ وما شكل القيود الّتي ما زالت هناك؟ هل تصارعينها؟  

رشا: أنا أتعامل مع جسدي بوصفه مادّة للشعر، كما كلّ شيء في حياتي. والغريب أنّني لم أشعر يومًا بثقل القيود الاجتماعيّة الرقابيّة على ما أكتبه. رغم أنّني أدرك تمامًا، وشهدت، الكثير من الإساءات إلى الشاعرات العربيّات لمجرّد ذكر مفردة «ثدي» أو الكتابة الأيروتيكيّة بعامّة. وفي المناسبة، ثمّة شعراء أيضًا تعرّضوا لإساءات مشابهة، عدد أقلّ حتمًا. المفارقة الحاليّة أنّ المجتمع العربيّ تراجع كثيرًا منذ الربيع العربيّ بما يخصّ حرّيّة الكتابة والإبداع. ربّما هي مرحلة مؤقّتة، إذ طفا كلّ العفن المدفون في قاع المجتمع إلى السطح، مترافقًا مع سهولة التعبير عن هذا العفن في وسائل التواصل الاجتماعيّ. الشاعرات العربيّات منكوبات دائمًا نتيجة تخلّف المجتمع. تجربة الشعر تحتاج إلى تجربة حياة منغمسة في كلّ ما يُعَدّ ممنوعًا. وهذا إن فعلته الشاعرة فلن تتجرّأ على استخدامه في الشعر، لن تتجرّأ على إعلانه أصلًا. سترى عجائب الإساءات إن فعلت. غير أنّ المفرح أنّ الكثيرات حاليًّا لا يلقين بالًا للشتائم والإساءات، ويتابعن تجاربهنّ في الشعر والحياة بابتهاج. عنّي أنا شخصيًّا، تعرّضت في حياتي للكثير من الإساءة، لكنّ الأيّام صقلت قدرتي على عدم الاهتمام بهذه الترّهات، إضافة إلى أنّني ربّما امتلكت القدرة على اللعب باللغة، بحيث أستطيع الكتابة عن كلّ شيء دونما خوف.

 

فُسْحَة: ظننتِ أنّ وصولك إلى القاهرة مؤقّت حتّى تعودي إلى سوريا، لكنّك لم تفعلي. يذكّرني هذا باللاجئين الفلسطينيّين الّذين خرجوا وظنّوا خروجهم عرضيًّا؛ كيف تعاملت مع هذا المؤقّت الدائم؟ وما مفهوم العودة بالنسبة إليك؟ 

رشا: أنا أعيش يومًا بيوم، دون أيّ تخطيط للغد، وفي ذات الوقت أحيط نفسي بما يجعلني أشعر بأنّني مستقرّة. لم يكن خروجي من سوريا برغبتي ولا بإرادتي، فُرض عليّ ذلك، والعودة ممنوعة عليّ. ماذا أفعل؟ عليّ أن أرتّب تفاصيل حياتي كما لو أنّني أعيش في مكان دائم. رغم أنّي أعيش في مكان لا يمنح أيّ فسحة للأمان لمَنْ هي مثلي، عوّضت هذا التهديد ببيتي، استأجرت شقّة فارغة وفرشتها كما لو أنّها مكاني الأبديّ؛ مكتبة ولوحات وزرع وتفاصيل يشعر مَنْ يراها أنّ هذا البيت قائم على هذه الصورة منذ ثلاثين عامًا، وباقٍ لثلاثين أخرى. قد أتخلّى عن كلّ هذا لحظة أن أعرف أنّ عليّ المغادرة كما غادرت بلدي الأوّل، الّذي بتّ مدركة تمامًا أنّه - كما فلسطين للفلسطينيّين، أصبح مجرّد ذاكرة وخريطة نضعها في سلسلة نعلّقها في أعناقنا دلالةً على الانتماء. غير أنّ الحقيقة أنّني درّبت نفسي على النسيان، لم يعد لديّ أيّ حنين، وما يربطني بسوريا خيوط قليلة، أصحو كلّ يوم وأنا أخشى سماع خبر انقطاعها.

 

فُسْحَة: على الرغم من هذا النسيان، إلّا أنّك تشبّهين نفسك في إحدى قصائدك بنخلة مستوردة. هل تشعرين بأنّ هذا الخروج ووجودك في «الغربة» شكّلا علامة فاصلة في شعرك ولغتك وأسلوبك؟ 

رشا: أعيش في مصر الآن، حيث النيل والرمال وأشجار النخيل؛ كلّ ما لم أعرفه في سوريا. قريتي في سوريا خضراء بالكامل، وأنا من مدينة بحريّة لا نهريّة، وبرَدى يشبه إحدى ترع النيل، لا يشبه النهر أبدًا. كلّ ما حولي جديد، أراه بباصِرة أخرى. أنا امرأة لحظويّة، امرأة يومي، لا نوستالجيا لديّ. الماضي لا يعنيني إلّا من خلال استمراره فيّ فقط. في الشعر أستمدّ لغتي من مفردات حياتي اليوميّة، ممّا يحيط بي، ممّا يعطيه لي المكان الّذي أعيش فيه. كنت أستغرب دائمًا، أن يكتب شاعر سوريّ لم يخرج من سوريا عن انتظاره في محطّة القطار مثلًا؛ فالقطار بمحطّاته ليس من ثقافتنا اليوميّة. نحن يوميّات السفر عندنا مربوطة بمحطّات الباصات والبولمانات، أمّا القطار فهو استعارة عادات آخرين وتفاصيل حياتهم. هذا ليس مخيالًا شعريًّا بالنسبة إليّ. هذا يخلق هوّة كبيرة بين النصّ وحواسّي الّتي تتلقّى النصّ. أنا أعيش في مكان بالغ الزحمة والضجيج، حتمًا لن أكتب نصًّا عن أصوات السيّارات، لكن نصّي لن يكون هادئًا ومحايدًا كما لو كنت أعيش في حديقة، لا أسمع فيها سوى أصوات الطبيعة. أحاول بالتأكيد اللعب بخيالي، غير أنّ مفرداتي تشبه المكان الّذي أعيش فيه الآن.

 

فُسْحَة: قلتِ إنّ الفيسبوك مثل دفتر مذكّرات، وقد أعادك مرّة للكتابة بعد انقطاع. لكنّه فضاء مشاع وعامّ أيضًا. ما طبيعة الحدود بين العامّ والخاصّ في الكتابة والنشر لديك؟ وهل تفكّرين في مذكّراتك جنسًا كتابيًّا؟

رشا: وسائل التواصل الاجتماعيّ ألغت الفواصل بين الخاصّ والعامّ. نحن حاليّا مكشوفون وعراة تمامًا أمام الآخرين، سواء أبرغبتنا فعلنا ذلك أم لم نفعل. التقنيّات الحديثة ألغت كلّ ما يتعلّق بالخصوصيّة، أحيانًا، أكتب في صفحتي هواجسي كما لو أنّني أكتبها لنفسي. لديّ أكثر من عشرة آلاف صديق ومتابع، ومع ذلك أشعر بأنّ هؤلاء جميعًا يتواطؤون معي في لحظة كتابة منشور ما؛ يتواطؤون على اعتبار صفحتي دفتر مذكّرات، وما أكتبه سرّيّ للغاية، ولا يجوز لأحد الاطّلاع عليه إلّا برغبتي، مع أنّ ما أكتبه مكشوف تمامًا للعلن، ما أكتبه ليس في الشعر فقط، بل رأيي السياسيّ والثقافيّ، وهواجسي ومخاوفي، وغضبي وشكوكي، وحالتي النفسيّة والعاطفيّة، كلّ شيء. أنا لا أجد حرجًا في كتابة كلّ ما أشعر به على فيسبوك، كتدوين لحظات يومي؛ من الطبخ والسهر واللعب مع قطّتي البيضاء، ذهابي إلى الكوافير، معاناتي مع هرموناتي، مكابداتي العاطفيّة. أحيانًا أقول ربّما من الأفضل عدم التفريط بكلّ هذا؛ فهو مرتبط أصلًا بلحظات تاريخيّة استثنائيّة، كالربيع العربيّ بكلّ أحداثه وتحوّلاته وانقلاباته، أو الأحداث العالميّة والكوارث الطبيعيّة، ولا سيّما فايروس كورونا وما فعله بنا. هذا عدا أنّ حياتي في الأساس تصلح لأن تُدَوَّن، ويُدَوَّن ما مرّ بها عائليًّا وثقافيًّا وعاطفيًّا وسياسيًّا. ربّما سأفكّر ذات يوم في استرجاع كلّ ذلك، وأكتبه دون تواريخ يوميّة، أكتبه نصًّا طويلًا عن امرأة أو شاعرة عاصرت أحداثًا استثنائيّة في التاريخ البشريّ.

 

فُسْحَة: في الحديث عن الربيع العربيّ، هل ترين ملامح جديدة يمكن تبيّنها في الشعر السوريّ بعد الثورة؟ أنت أيضًا كتبت في أحد مقالاتك عن سؤال تمايز الشعريّة السوريّة عن الفلسطينيّة والمصريّة والمغربيّة؛ فهل بالإمكان، في ضوء السنوات العشر الأخيرة، الإجابة عن هذا السؤال والحديث عن شعريّة عربيّة جديدة؟ 

رشا: لا أعتقد أنّ ثمّة في الوقت الحاليّ ملامح خاصّة بالشعر السوريّ أو بغير، لا معنًى أصلًا لهذا التحديد: شعر سوريّ أو مصريّ أو فلسطينيّ، إلخ. عشر سنوات ماضية عصفت بالعالم العربيّ كلّه، أظهرت كلّ ما فيه من الخراب والعفن والجمال أيضًا، كلّ ما كان مسكوتًا عنه انكشف، واتّضح أنّ المسكوت عنه في مجتمعاتنا العربيّة مشترك بين الجميع، والشعراء العرب ليسوا منفصلين عنه، هم مثلهم مثل الآخرين، جزء منه، تفاعلهم معه مشترك. الفروقات في انعكاس ما حدث على الشعراء العرب تكاد تكون طفيفة. هل يمكنك أن تفرّقي بين قصيدة لشاعرة مصريّة في أوائل الثلاثين، عن أخرى سوريّة في نفس السنّ، أو تونسيّة، أو عراقيّة، أو فلسطينيّة؟ ثمّ هل تختلف كتابة شاعر سوريّ يعيش في الغرب عن آخر مصريّ أو ليبيّ مثلًا؟ هذا العقد من الزمن جعل العالم قرية صغيرة فعلًا، ليس فقط على المستوى المعلوماتيّ، بل على مستوى التأثّر بالأحداث والتفاعل معها وتمثّلها أيضًا. ثمّة كتابة عربيّة لها سمات محدّدة تقريبًا: منفى، دم، خذلان، يأس، انتحار، عزلة، وحشة، حنين، خوف، مجهول، كوابيس تظهر على شكل نصوص شعريّة؛ إذ كان ثمّة حلم عامّ بالتغيير وقُضِيَ عليه. هُزِمْنا جميعًا، هزمتنا الحروب والموتى والمنفى والخوف والسياسة والبلطجة والتشبيح والمافيات، ليس فقط عربيًّا، بل في كلّ العالم، الخراب هو مَنْ انتصر، كيف سيكون حال الشعر وسط كلّ ذلك؟

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.